هي قصة مألوفة تكررت وإن اختلفت الشخصيات: فقدت الطفلة “دينا”[1] البالغة من العمر ثمان سنوات ساقيها بسبب لغم مصمم للانفجار تحت أي وزن يتجاوز ثمانية كيلوغرامات. كانت الفتاة تنتظر بشوق عودتها إلى منزلها الواقع على خط تماس المواجهات المسلحة بين الحكومة وقوات الحوثيين في مديرية الدريهمي بمحافظة الحديدة. طمأنها والدها بأنهم سيعودون إلى المنزل وأن القتال سيتوقف بعد إبرام اتفاقية استكهولم في ديسمبر 2018 بين أطراف الصراع، لكنها لم تكن تعلم بأن منزلهم والحديقة المحيطة قد زُرعت فيها الألغام المضادة للأفراد، حيث تفنن زارع تلك الآفة بأشكالها التمويهية المحاكية للبيئة المحيطة مثل الأحجار والأدوات المنزلية بل وحتى على شكل ألعاب الأطفال.
هُجّر المدنيون في اليمن – منهم الأطفال والنساء – من مساكنهم ومزارعهم، ليجدوا أنفسهم في مناطق مُلغّمة. ونظرا لافتقارهم إلى أي معرفة بِالتكتيكات الحربية التي يستخدمها أطراف الصراع، فقد يكونوا أكثر الأشخاص عرضة لهذه الألغام والذخائر غير المنفجرة، التي غالبا ما تُزرع بشكل عشوائي أثناء الانسحابات العسكرية. تزعم الحكومة المعترف بها دوليا أن الحوثيين زرعوا مليوني ونصف مليون لغم أرضي، في المناطق التي دارت فيها الصراعات منذ مارس 2015، ومما يزيد الأمر تعقيداً استمرار رفض الأطراف المتحاربة تسليم خرائط للمناطق الملغمة هذه إلى الجهات المختصة، كما هو مطلوب بموجب اتفاقية حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد، التي وقع عليها اليمن عام 1998م.
على الرغم من دخول الهدنة في اليمن عامها الثالث وانحسار العمليات القتالية الكبرى، إلا أنها أخفقت في وضع حدّ للخسائر البشرية للألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة. فهذا “القاتل الصامت” ينتظر بلا رحمة، بحيث أن أي خطأ هو الأخير للضحية. يحتل اليمن اليوم المرتبة الثالثة عالمياً من حيث ضحايا الألغام، فقد بلغ إجمالي ضحايا القنابل العنقودية والألغام 9500 ضحية من المدنيين منذ مارس 2015م – جُلهم من النساء والأطفال – بحسب إفادة مركز التعامل مع الألغام في صنعاء.
تعود أزمة الألغام الأرضية في اليمن إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما تم نقل 12 مليون لغم من ليبيا إلى اليمن زرعت معظمها في المناطق الحدودية بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي. في عام 2007، رفع محام يمني دعوى قضائية ضد الرئيس الليبي آنذاك معمر القذافي، يطالب فيها بالتعويض عن الأضرار والإصابات التي لحقت بالمدنيين اليمنيين. ما يزال المدنيون يعانون من هذا الإرث القاتل حتى اليوم، حيث تنتشر معظم هذه الألغام في مزارع ومناطق رعي الماشية موقعة ضحايا من المزارعين والرعاة. تشير شهادات شهود جمعتها منظمة هيومن رايتس ووتش وأدلة جمعتها منظمات حقوقية محلية إلى أن قوات الحرس الجمهوريزرعت ألغاماً أرضية مضادة للأفراد في 2011، حول معسكراتها في منطقة بني جرموز بالقرب من صنعاء، وفي أغسطس 2023م، ذكرت مصادر داخل المنطقة العسكرية الثانية بحضرموت أن فريقاً هندسياً قام بتفكيك شبكة ألغام وعبوات ناسفة زرعها تنظيم القاعدة.
غالبية ضحايا الألغام هم من المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال المعرضون للخطر كونهم ينخرطون في أنشطة كَجمع الحطب والمياه ورعاية الماشية، وقد يفتقرون إلى المعرفة اللازمة للتعرّف على الألغام أو تجنبها. الأطفال تحديداً أكثر الفئات عرضة لتهديد هذه الأجسام، كما حدث مع الطفل (ريان) من الجوف البالغ من العمر ثمان سنوات، حين كان يعبث ببراءة بجسم يشبه القلم ليودي اللغم بحياته. تقوم أطراف الصراع الألغام بإخفاء هذه الأجسام الفتاكة كأدوات تُستخدم غالباً في الحياة اليومية.
عام 2018م، ونتيجة الحرب وانقسام المؤسسات والهيئات الحكومية بين صنعاء وعدن، تم الإعلان عن المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام في عدن، ككيان مستقل عن المركز الرئيسي في صنعاء، والذي تأسس في ديسمبر 1999. كان المركز يعتمد بشكل كبير على وحدة نوعية من الكلاب الكاشفة للألغام التي تعرضت في أكتوبر 2021م، للقصف من قبل التحالف بقيادة السعودية، مما زاد من تفاقم التحديات المرتبطة بتحديد المناطق الملغومة واستكشاف وإزالة مخلفات الحرب.
إن تطهير الأراضي والمزارع والطرقات من الألغام والاجسام المتفجرة لا يضمن فقط سلامة المدنيين من تعرضهم للإصابة المباشرة، بل يساهم في حرية تنقل البضائع والأشخاص والوصول إلى الخدمات الأساسية فضلا عن تسهيل الحركة من أجل العمل والتعليم أيضاً وغيرها من سبل الحياة.
على الرغم من خوض أطراف الصراع في اليمن عدة جولات من مباحثات السلام – برعاية اممية وإقليمية – إلا أن تلك الأطراف ترفض تسليم أي خرائط تحدد المناطق الملغومة، وتستخدم الموارد المنقذة للحياة كأوراق مساومة لتحقيق أهدافها من خلالها. وبما أن الألغام بطبيعتها أجسام قد تظل تهديداً لعقود من الزمن، فإننا نسمع بشكل منتظم عن ضحايا من المدنيين منهم موتى أو ناجين لكن “بإعاقات دائمة” فضلا عن ضحايا الصدمات النفسية والخسائر الاجتماعية والاقتصادية.
ذكر موظف في الجمعية اليمنية للناجين من الألغام والقذائف غير المتفجرة بأنه تم تسجيل ما يقارب تسعة آلاف ناجٍ وناجية من حوادث انفجار ألغام أرضية أو عبوات ناسفة، وتقتصر الرعاية المقدمة لهم على الرعاية الصحية والتأهيل الفيزيائي بعد وقوع الإصابات (كَحصولهم على أطراف صناعية محلية الصنع أو وسائل مساعدة كالكراسي المتحركة والعكازات). هذا العدد يُمثل فقط إحصاءات المركز الرئيسي بصنعاء، علماً بأنه لا يوجد تمثيل لهؤلاء الناجين في مفاوضات السلام الجارية، من أجل إيصال أصواتهم واحتياجاتهم. بالتالي، فأي تسوية لا تتضمن تعويضهم أو تكفل حقوقهم قد تؤدي إلى ضياعها وتركهم في مواجهة الصعاب بمفردهم.
الناجون من الألغام، الذين يعاني غالبيتهم من إعاقات مختلفة خاصة بتر الأطراف، يحتاجون إلى رعاية شاملة ومستدامة. يجب أن تبدأ هذه الرعاية من لحظة الإبلاغ عن وقوع الحادث وأن يستمر لحين تمكّن الناجي أو الناجية من العودة إلى ممارسة حياته/ا بشكل طبيعي قدر الإمكان. تحتاج مثل هذه المساعي إلى وجود نظام متكامل وتنسيق الجهود وآلية دعم لتضميد جراح هؤلاء الضحايا وتمكينهم من الحصول على التعويض المناسب.